فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {أوْ فسادٍ} الجمهور على جَرِّهِ عَطْفًا على {نَفْس} المجرور بإضافة {غَيْر} إليها، وقرأ الحسن بنصبه، وفيه وجهان:
أظهرهُمَا: أنَّه منصوبٌ على المَفْعُول بعامل مضمر يَلِيقُ بالمَحَلِّ، أي: أو أتى أو عَمِل فَسَادًا.
والثاني: أنه مصدرٌ، والتقدير: أو أفْسَد فَسَادًا بمعنى إفساد فهو اسْمُ مَصْدَر، كقوله: [الوافر]
وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا

ذكره أبو البَقَاء.
و{في الأرض} متعلِّق بنفس {فَسَاد}؛ لأنَّك تقول: «أفْسَد في الأرْض» إلاَّ في قراءة الحسن بنَصْبِه، وخرَّجناه على النَّصْب على المَصْدرية، كما ذكره أبُو البقاء، فإنه لا يتعلَّق به؛ لأنه مصدر مُؤكِّد، وقد نَصُّوا على أنَّ المؤكد لا يعمل، فيكُون {في الأرضِ} متعلِّقًا بمحذُوف على أنه صِفَة لـ «فسادًا» والفاءُ في {فَكَأنَّمَا} في الموضعين جواب الشَّرْط واجِبَة الدُّخول، و«ما» كافة لحرف التَّشْبيه، والأحْسَن أن تسمى هُنَا مهيِّئة لوقوع الفِعْل بَعْدَهَا، و{جَمِيعًا}: إمَّا حال أو تَوْكِيدٌ.
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك}، أي: بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل، {لمُسْرِفُون} الذي هو خَبَر {إن} ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ، وإنَّما منع منه دخول «إنَّ» و«ذلِكَ» إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (33):

قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان هذا الإسراف بعد هذه الموانع محاربة للناهي عنه، وكان تارة يكون بالقتل وتارة بغيره، وكان ربما ظن أن عذاب القاتل يكون بأكثر من القتل لكونه كمن قتل الناس جميعًا، وصل به سبحانه قوله على طريق الحصر: {إنما جزاؤا} وكان الأصل: جزاؤهم، ولكن أريد تعليق الحكم بالوصف والتعميم فقال: {الذين يحاربون الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له {ورسوله} أي بمحاربة من نَهَيَا عن محاربته بقطع الطريق وهم مسلمون، ولهم منعة ممن أرادهم، ويقصدون المسلمين في دمائهم وأموالهم سواء كانوا في البلد أو خارجها.
ولما كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هونًا، أعلم أن هؤلاء عماد الشيطان بقوله: {ويسعون في الأرض} ولما كان هذا ظاهرًا في الفساد، صرح به في قوله: {فسادًا} أي حال كونهم ذوي فساد، أو للفساد، ويجوز أن يكون مصدرًا ليسعون- على المعنى، ولما كانت أفعالهم مختلفة، فسم عقوبتهم بحسبها فقال: {أن يقتلوا} أي إن كانت جريمتهم القتل فقط، لأن القتل جزاؤه القتل، وزاد- لكونه في قطع الطريق- صيرورته حتمًا لا يصح العفو عنه {أو يصلّبوه} أي مع القتل إن ضموا إلى القتل أحد المال، بأن يرفع المصلوب على جذع، ومنهم من قال: يكون ذلك وهو حيّ، فحينئذٍ تمد يداه مع الجذع، والأصح عند الشافعية أنه يقتل ويصلى عليه ثم يرفع على الجذع زمنًا يشيع خبره فيه لينزجر غيره، ولا يزاد على ثلاثة أيام {أو تقطّع أيديهم} أي اليمنى بأخذهم المال من غير قتل {وأرجلهم} أي اليسرى لإخافة السبيل، وهذا معنى قوله: {من خلاف} أي إن كانت الجريمة أخذ المال فقط {أو ينفوا من الأرض} أي بالإخافة والإزعاج إن لم يقعوا في قبضة الإمام ليكونوا منتقلين من بلد إلى آخر ذعرًا وخوفًا، وبالحبس إن وقعوا في القبضة، وكانوا قد كثروا سواد المحاربين وما قتلوا ولا أخذوا مالًا {ذلك} أي النكل الشديد المفصّل إلى ما ذكر {لهم} أي خاصًا بهم {خزي} أي إهانة وذل بإيقاعه بهم {في الدنيا} أي ليرتدع بهم غيرهم {ولهم} أي إن لم يتوبوا {في الآخرة} أي التي هي موطن الفصل بإظهار العدل {عذاب عظيم} أي هو بحيث لا يدخل تحت مَعارِفِكم أكثر من وصفه بالعظم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو، فإن بعض ما يكون فسادًا في الأرض لا يوجب قتل فقال: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ}. اهـ.

.قال الألوسي:

ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالًا من الفساد المبيح للقتل، فقال جل شأنه:
{إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الثعلبي:

{إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية.
قال الضحاك: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهجّ.
قال: فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام. بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهدًا فانهدّوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل جبرئيل عليه السلام بالقضية فيهم.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في ناس من عرينة وغطفان أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة لأن أجوافنا انتفخت، وألواننا قد اصفرّت فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أُخرجوا إلى لقاحنا واشربوا أبوالها وألبانها» فذهبوا وقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. وارتدّوا عن الإسلام فنودي في الناس: يا خيل اللّه اركبي فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا فخرجوا في طلبهم فجيء بهم. فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّ حتى ماتوا، ثم اختلفوا في حكم الآيتين. فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وشرب بول الإبل لا يجوز.
وقال آخرون: حكمه ثابت إلاّ السمل والمثلة. قال الليث بن سعد: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتعليمًا منه إيّاه عقوبتهم فقال: «إنما جزاؤهم هذا» أي المثلة.
ولذلك ما قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطيبًا إلاّ نهى عن المثلة. اهـ.

.قال الفخر:

في أول الآية سؤال، وهو أن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله، والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازًا، لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله، وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة، فلفظ يحاربون في قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} يلزم أن يكون محمولًا على المجاز والحقيقة معًا، وذلك ممتنع، فهذا تقرير السؤال.
وجوابه من وجهين:
الأول: أنا نحمل المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف، والتقدير: إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فسادًا كذا وكذا، والثاني: تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا.
وفي الخبر أن الله تعالى قال: «من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة». اهـ.
قال الفخر:
من الناس من قال: هذا الوعيد مختص بالكفار، ومنهم من قال: إنه في فساق المؤمنين، أما الأولون فقد ذكروا وجوها: الأول: أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام، فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا، فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثرهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا، فنزلت هذه الآية نسخًا لما فعله الرسول، فصارت تلك السنة منسوخة بهذا القرآن، وعند الشافعي رحمه الله لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقًا للسنة الناسخة، والثاني: أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي، وكان قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
الثالث: أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى الله تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ الله عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض، فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا.
والوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء، قالوا: والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه: أحدها: أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام، والآية تقتضي ذلك.
وثانيها: لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي، والآية تقتضي ذلك.
وثالثها: أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] والمرتد يسقط حده بالتوبة قبل القدرة وبعدها، فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين.
ورابعها: أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هاهنا، فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد.
وخامسها: أن قوله: {الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا} يتناول كل من كان موصوفًا بهذه الصفة، سواء كان كافرًا أو مسلمًا، أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. اهـ.

.قال الألوسي:

ذهب أكثر المفسرين كما قال الطبرسي، وعليه جملة الفقهاء إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام كما قال الجصاص على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل: ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له وترفيعًا لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدًا على تمهيد، وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال: حربه إذا سلبه، والمراد به هاهنا قطع الطريق؛ وقيل: الهجوم جهرة بالصوصية وإن كان في مصر {وَيَسْعَوْنَ} عطف على يحاربون، وبه يتعلق قوله تعالى: {فِى الأرض}، وقيل: بقوله سبحانه: {فَسَادًا} وهو إما حال من فاعل {يَسْعَوْنَ} بتأويله بمفسدين.